الجمعة 24 شوال 1445 هـ | 03/05/2024 م - 03:25 صباحاً - بتوقيت مكة المكرمة

تاريخ موجز


من يواسي العيد في أراكان؟
الجمعة | 09/11/2012 - 03:29 صباحاً

إبراهيم حافظ
مكة المكرمة
1/10/1433هـ
ليلة العيد 12 والنصف

 

صباح أغرّ .. شمس ساطعة .. سماء صافية .. أسراب محلّقة .. زقزقات متبادلة .. وأنا سعيد بنفسي ودوري ومهمتي بين أفواج المهنئين .. أرسم البسمة في الوجوه .. أضيء البهجة في العيون .. أنثر العبير من بين الشفاه .. هذه بلدة هادئة .. "أراكان" : اسم جميل .. جوها ساحر .. طبيعة خلابة .. بساط أخضر ممتد .. أين أهلها؟ أظنهم فقراء .. أعشاشهم تتناثر هنا وهناك .. ما أطيب قلوبهم .. هؤلاء البسطاء باقون على الفطرة .. ولكن ما هذا؟
إنسان أم حيوان؟ لا أراه يتحرك .. فلأقترب قليلاً .. أراه الآن بوضوح .. أظنه إنساناً .. ولكنه لا يتحرك .. ما أصغر جِرمه ! ما أضأل جسمه ! فلأقترب أكثر .. ماذا؟ لماذا يجلس هذا الطفل إلى شاطئ النهر وحده؟ يحدّق في الماء الساكن صامتاً كأنه فيلسوف صغير ! هل أكلمه؟ لعله يستأنس بي .. هل يخاف مني؟ دعني أجرب :
- كيف حالك يا صغيري؟
- أنا بخير ..
- لماذا تجلس وحدك هنا؟
- أحب أن أتأمل في صفحة الماء وأنا أتخيل !
- تتخيل ماذا؟
- ... ... ...
لماذا لا يجيب؟ هل انزعج من أسئلتي؟ لعلي قطعت عليه حبل أفكاره ..
- صغيري : هل أضايقك بأسئلتي؟
- أبداً يا عم .. امنحني ثواني فقط لأكمل رسم الصورة في مخيلتي !
- خذ راحتك صغيري .. هل تسمح لي بالجلوس إلى جوارك وأنت تكمل رسم صورتك؟
- بكل سرور .. تفضل يا عم ..
واو ! يقول إنه يرسم صورة في مخيلته ! ما أرق إحساس هذا الصبي ! كأنه فنان صغير .. أكل أطفال بلدته كذلك؟ إن كانوا كذلك فما أسعد حظ هذا الشعب الفقير في مستقبله الواعد .. ينجبون فلاسفة وفنانين منذ طفولتهم .. ما ضرّهم أن يبأس حاضرهم طالما أنهم ينتظرهم مستقبل سعيد .. ما أشد اشتياقي لمعرفة ما يفكر فيه هذا الفيلسوف الصغير ! مازال على هيئته مطأطئاً رأسه متأملاً في صفحة الماء الساكنة .. غريب سكون الماء بهذا الشكل الفريد .. هل يكون هو الآخر خاضعاً للفيلسوف الصغير مثلي؟ ما أشد لهفتي لرؤية ما يرسمه في مخيلته البارعة ! هل أزعجه وأقطع عليه تحنثه في محراب الفكر والفن من جديد؟
- لقد انتهيت يا عمي .. شكراً لك على صبرك .. سل ما بدا لك الآن ..
- وتشكرني أيضاً؟ ما أرهف ذوقك وأسمى أدبك يا صغيري !
- ذلك ما علّمنيه أبي ..
- أبوك لم يشق بإنجابك يا فتى !
أين من يقول إن الفقر والجريمة يولدان معاً؟ من أين استقى العبقري نظريته البائسة؟ لو رأى صغيري هذا وعرف حاله ودرس مخبره قبل أن يطلق نظريته الفجّة؟
- لم تسأل يا عمي .. أنا في انتظارك ..
- عفواً صغيري .. كنت أحدث نفسي .. حسناً .. أخبرني الآن : فيم كنت تفكر؟ ماذا كنت ترسم في مخيلتك؟
- كنت أفكر في العيد !
- في العيد؟!!
ولكن يجب أن أضبط نفسي وانفعالاتي وأتحكم في أعصابي قبل أن يكتشف الصغير حقيقتي ..
- نعم في العيد ، وأحاول أن أرسم في مخيلتي صورة عنه !
- لماذا؟
- لأني كثيراً ما سمعت به من أمي وهي تحكي لي عن ذكريات رمضان في طفولتها ..
وإذن فأبواه حيان يرزقان .. يعلمانه الأدب ويحدثانه عن ذكرياتهما .. ما ألطف هذا !
- أين هما أبواك يا صغيري؟ أهناك في الأعشاش؟
- كلا .. لقد قتلهما "الموغ" قبل أسبوعين !!!
- لماذا قتلوهما؟
- لأنهما مسلمان كما أخبرني إمام المسجد قبل أن يقتلوه هو الآخر !
يبدو أن أخبار القتل تحيط بصغيري هذا من كل جانب .. لا أظنه يوماً مناسباً لإثارة ذكرياته الدامية عمن قُتل من أقاربه .. لعلي أعود إليه لأسأله عنها فيما بعد ..
- ماذا سمعت من أمك عن العيد يا صغيري؟
- أشياء كثيرة وجميلة .. سمعت منها أنه حين يأتي يجلب معه الحلوى والأفراح ، ويجلب معه الهدايا والألعاب ، وأنه طيب ودود ويحب الأطفال كثيراً ، وأن الناس يحتفون به ويخرجون من بيوتهم لاستقباله بملابسهم الجديدة ، وأنهم يعطون الأطفال نقوداً يشترون بها ما يحلو لهم من الطعام والشراب والألعاب .. كم أتمنى أن أقابله وأسلم عليه !
- من هو يا صغيري؟
- العيد !!!
- لماذا؟
- لأني لم أره قط في حياتي ولا أعرف شكله .. ولا أدري لماذا قرر أن يقاطعنا فجأة وهو الذي كان يزور أمي كل عام قبل أن تلدني .. عمي : هل لك أن تأخذني إليه؟ هل تعرف أين هو؟ عمي : لماذا لا ترد عليّ؟ لماذا تغطي وجهك بيديك؟ عمي : لماذا تبكي؟ هل تتألم من شيء؟ هل أساعدك عماه؟
رحماك يا إلهي .. حنانيك يا قلبي .. رباه كيف أجيبه .. ها هوذا يمسح على ظهري يواسيني .. وهو الذي يحتاج إلى من يواسيه في محنته .. ما أرق مشاعرك يا صغيري .. لله درّ من أنجبك .. رحمة الله على أرواح والديك .. لله درّ أطفال لا يعرفون للعيد معنى في طفولتهم .. أواه لو عرفتَ صغيري أني جئت أزوركم أواسيكم .. ما كنت أتوقع أني أتلقى المواساة منكم .. أواه لو عرفتَ صغيري أني أنا "العيد" !!!


المصدر : لجينيات


التعليـــقات
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الوكالة وإنما تعبر عن رأي أصحابها

ذكرى 3 يونيو

المقالات
مؤلفات
القائمة البريدية
اشترك الآن في القائمة البريدية لتصلك نشرة دورية بأحدث وأهم الأخبار
البحث