محمد خليفة ـ الخليج
في واقعة جديدة على الساحة السياسية الدولية، تقدمت دولة غامبيا بدعوى باسم دول منظمة التعاون الإسلامي أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها سلطات ميانمار بارتكاب جرائم القتل والإبادة الجماعية بحق أقلية الروهينجا المسلمة. وتقول الدعوى، إن ميانمار انتهكت الاتفاقية الدولية حول منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية التي اعتمدت من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في 9 ديسمبر/كانون الأول عام 1948، وطلبت غامبيا عبر دعواها القضائية «تحقيق العدالة وضمان المحاسبة على الإبادة التي مارستها ميانمار ضد الروهينجا». وتعد محكمة العدل الدولية هي الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة. وتتولى الفصل طبقاً لأحكام القانون الدولي في النزاعات القانونية التي تنشأ بين الدول. وكانت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية قد طالبت محاميّ المحكمة في يوليو/تموز الماضي بالسماح بفتح تحقيق رسمي على مزاعم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية ضد أقلية الروهينجا المسلمة في ميانمار. وفي 14 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أجاز قضاة المحكمة الجنائية الدولية فتح تحقيق في جرائم مرتكبة في ميانمار ضد أقلية الروهينجا المسلمة، بما في ذلك أعمال العنف والترحيل التي قد تشكل جرائم ضد الإنسانية. وبالتالي هناك دعوتان ضد بورما - ميانمار: واحدة لدى محكمة العدل الدولية، وأخرى لدى محكمة الجنايات، وهكذا أصبحت الحكومة البورمية في مواجهة مفتوحة مع دول العالم التي أيّدت حق شعب الروهينجا في الوجود على أرض الآباء والأجداد. وهذا يشكل انتصاراً للحق ويشي بخطوات دولية أخرى ضد دول أخرى معتدية. وهو أيضاً إدراك مطلق بأن الظالم لن يفلت من عقاب الأرض في نظام الكون قبل عقوبة السماء؛ فالعدالة هي مفهوم يعني: عدم الانحياز في محاكمة أي إنسان لأي أمر، وهي: رؤية إنسانية للمحيط الذي يعيش فيه كل فرد، والعدالة عكس الظلم والجور والتطرف. وتهدف العدالة إلى الإنصاف والمساواة والتوازن، وهي: مفهوم أخلاقي يقوم على الحق والأخلاق والعقلانية والقانون الطبيعي والإنصاف. فالعدالة هي: القوانين التي وجدت مع وجود الكون، وتعد قاعدة اجتماعية أساسية لاستمرار حياة البشر مع بعضهم. ومفهوم الإيمان لدى كل دين أنه يمتلك طريقاً خاصاً به إلى الصدق والعدل، وامتلاكه وحدة الطريق إلى الإيمان بالمطلق.
إن ما حصل في ميانمار من إبادة جماعية ضد أقلية عرقية هو ظاهرة ثقافية من منظور ثقافة العنف والنزعة النسباوية، التي لا تقر بوجود حقائق مطلقة تتعالى على الآخر، ولكنها لا تنفرط عن القيم الكونية وعن المفهوم النسبي في فهم الإيمان إلى الذاتية الفائقة، ونتيجة ذلك برزت هذه الصدامات الكبرى والعنف العدمي، والإبادة الجماعية؛ بسبب العوامل التي تشكل، بصورة مباشرة، ظاهرة العنف بكل مستوياتها، وتعكس تلك الفجوة بين مفهوم النزعة العنصرية العبثية، وعدم إدراك أحقية كل معتقد في فهم التعددية العقلانية. إن البشر جميعاً سواسية وأصلهم واحد، هذه الاستعلائية المتكبرة على الآخرين كانت من أسباب الحروب الدامية بين أبناء بني الإنسان.
إن عقد جلسات محكمة العدل الدولية أمام لجنة من 17 قاضياً هو درس ورسالة أخلاقية وقانونية لكل من يرتكب جرائم بشعة تشين الإنسانية، يبقى أثرها في حياة الناس الوجدانية والاجتماعية.
لن تستقيم حياة الأفراد إلا بالتحرر الوجداني المطلق، وعلى الحكومات مسؤولية منح الحرية الفردية في أجمل صورها، والمساواة الإنسانية في أدق معانيها، ولا تتركها للفوضى؛ فللمجتمع حسابه وللإنسانية اعتبارها وللأهداف العليا للمعتقدات قيمتها. فهناك التكافل بين الفرد وذاته، وبين الفرد والجماعة، وبين الأمة والأمم. والأمة مسؤولة عن حماية الضعفاء فيها، أو المختلفين في المعتقد والعقيدة، ورعاية مصالحهم وصيانتها، وهي مسؤولة عن فقرائها ومعوزيها. وعلى هذا الأساس وضعت الأمم المتحدة الحدود في الجرائم العنصرية أو الإبادة الجماعية، مع أن محكمة العدل الدولية لا تملك سلطات تنفيذية؛ لكن أحكامها نهائية ولها وزن كبير من الناحية القانونية، وهي النظرة الكلية البعيدة الأهداف إلى العدالة الاجتماعية، وتجعل العدالة القانونية عدالة إنسانية شاملة لكل مقومات الحياة الإنسانية وفق نهج قانوني، مراعية العناصر الأساسية في فطرة الإنسان ووحدة الحياة والإنسان.