جون كارلينج ترجمة: حسن عبده حسن
على الحدود الجنوبية الشرقية لبنجلاديش، تعيش مجموعة من الأقلية المسلمة في «ميانمار» (بورما سابقاً) ظروفاً هي الأسوأ من نوعها في آسيا، وربما في العالم كله.. ويُطلق على هذه الأقلية اسم «روهنجيا»، ويبلغ عددها نحو 30 ألفاً، وقد تعرّضوا لأنواع من الاضطهاد الوحشي على يد النظام العسكري الحاكم في البلاد، وذلك بسبب دينهم. وأقامت أقلية «روهنجيا» مخيماً في منطقة «كوتو بالونج»، دون مساعدة من الأمم المتحدة أو أية جهة أخرى.. ويقع المخيم فوق تلة صغيرة، ويتميز بجوه الحار، واكتظاظ الناس فيه، وانتشار الأمراض والأوبئة والقاذورات؛ حيث تبدو القرى البنجالية المجاورة على فقرها وبؤسها مناطق مترفة! وعندما زرتُ هذا المخيم برفقة منظمة «أطباء بلا حدود» لاحظتُ أن ثلث سكان المخيم من الأطفال دون سن العاشرة، وكان الوضع مثيراً لليأس، رغم أن الأطفال والنساء كانوا يضحكون عندما يقوم المصور المرافق لي بتصويرهم.. وكانت الأمهات يبعن أطفالهن عندما يصل بهن اليأس إلى طريق مسدود، حيث يصبح هؤلاء الأطفال إما عبيداً أو يقعون في أيدي عصابات تجارة الجنس! حلم السفر يحلم الشبان من هؤلاء اللاجئين بالعيش في ماليزيا التي تعتبر بالنسبة لهؤلاء البورميين كوكباً مختلفاً تماماً بالنظر إلى التطور الحاصل في هذا البلد، حيث ناطحات السحاب والمصانع والطائرات، والتي تبعد نحو ألف ميل إلى الجنوب من بنجلاديش.. ولأن هؤلاء لا يملكون جوازات سفر، كما أنهم لا يعتبرون مواطنين في بلادهم، فلا بد من استخدام وسيلة أخرى للوصول إلى الهدف المنشود وهي التهريب. ويستغل هذه الفرصة ملاك قوارب صيد من بنجلاديش، حيث يقوم كل قارب طوله 60 قدماً بحمل نحو 100 لاجئ من هؤلاء، يدفع كل منهم 180 جنيهاً إسترلينياً. وعادة ما تبدأ هذه الرحلات في نهاية كل عام في ديسمبر، حيث تكون الرياح مواتية للإبحار نحو ماليزيا. وقد تحدثتُ مع عدد من هؤلاء المسافرين ورووا لي قصص سفرهم، التي تلخصت في العواصف والجوع والمرض والعطش والضرب والسجن، وكانت رحلتهم البحرية عبارة عن موت بطيء، وأحياناً مرعب. وثمة موت بطيء آخر هو ما سيلاقونه في بلدهم «ميانمار»، حيث روى لي كبار السن من سكان المخيم قصص حياتهم في بلدهم، التي توحي بأنها أكثر صعوبة من حياة الاستعباد في أمريكا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. عبيد مشرّدون تعيش أقلية «روهنجيا» في شمال غربي البلاد في ولاية يطلق عليها اسم «إركانا»، ونظراً لأن حكومة «ميانمار» رفضت الانتخابات الديمقراطية التي أجريت عام 1990م، فقد أصبحت الدولة مغلقة أمام الصحفيين الأجانب.. وتدرك هذه الأقلية سبب منع دخول الصحفيين إلى البلد كي لا يشاهدوا بأم أعينهم مدى التمييز العنصري الذي يمارَس عليهم، باعتبارهم مسلمين يعيشون في دولة «بوذية»! ولأن لون بشرتهم أكثر سمرة من معظم سكان «ميانمار» - وبسبب تاريخهم المقاوم لسيطرة الحكومة العسكرية، بعد أن وقفوا إلى جانب البريطانيين في الحرب العالمية الثانية بدلاً من مساندة اليابان التي يؤيدها معظم السكان - فقد وجد هؤلاء أنفسهم عبيداً مشردين في البلد الذي ولدوا فيه، ولا يستطيعون الانتقال من قرية إلى أخرى دون إذن السلطة العسكرية المحلية، ولا يستطيعون مقاومة عملية مصادرة أرضهم ومنحها للسكان البوذيين، كما أنهم مجبرون على العمل في الأرض التي تُسرق منهم دون أجر، ومجبرون أيضاً على القيام بكل الأعمال «الحقيرة» التي يطلبها منهم الجيش، كما أنه يحظر عليهم ممارسة عباداتهم بحرية! رحلة إلى ماليزيا تحدثتُ مع شاب متدين في التاسعة عشرة من عمره اسمه «محمد»، وهو أكبر إخوته الثمانية، كان والده قد اعتبره منقذ العائلة، ولذلك قرر إرساله إلى ماليزيا عن طريق بنجلاديش كي يعمل هناك ويرسل المال إلى العائلة.. وقام الوالد ببيع قطعة أرض كي يؤمِّن لابنه مصاريف الرحلة، وقال محمد أثناء مغادرته على ظهر المركب: «أشعر بأني أغادر عائلتي للمرة الأخيرة، وبأني لن أراهم مجدداً». وهناك «سليم»، الفتى النحيل، وهو المسافر الثاني في هذه القصة، ولديه أربعة أشقاء وأربع شقيقات، وكان عمره 17 عاماً عندما غادر «أراكان».. أما المسافر الثالث فهو «منير»، وعمره 23 عاماً، وغادر «أراكان» قبل عشر سنوات. وكان الثلاثة قد غادروا ولايتهم على قوارب مختلفة نحو ماليزيا في رحلة يبلغ طولها 1500 كيلومتر. وكان الثلاثة يدركون أنهم يغامرون برحلتهم هذه، ولكنهم لا يعرفون ما المصير الذي ينتظرهم.. فقد نفد الماء والغذاء من القارب الذي كان يركب فيه «سليم» و«محمد» بعد عشرة أيام، في حين نفد من قارب «منير» بعد ثمانية أيام.. وفي كلتا الحالتين كان القاربان على بعد 500 كيلومتر من ماليزيا، وبقي القاربان يبحران بلا ماء أو طعام لمدة يومين، وبعد ذلك وقع القاربان في أَسْر القوات البحرية التايلاندية، فتم ترحيلهم إلى بلدة يُطلق عليها «رانونج». مغامرة الإبحار أمضيتُ ست ساعات مع هؤلاء الثلاثة وهم يحكون لي ما حدث معهم، والحزن يعتصر قلوبهم، ولم يبتسم أيٌّ منهم ولو مرة واحدة.. وفي واقع الأمر، فإن ما حدث مع هؤلاء المسافرين الثلاثة كان ما شهده المئات من شعب «روهنجيا» الذين يغامرون بالإبحار إلى عالم أفضل وحياةٍ أقلَّ تشرّداً. فقد قام الجيش التايلاندي بنقل «منير» و«محمد» من «رانونج» إلى «كوه ساي دانج»، وهي جزيرة معروفة باسم «ريد ساند أيلاند».. وبقي هؤلاء مع الآخرين معتقلين لمدة 15 يوماً في الجزيرة، وبعد ذلك تم نقلهم جميعاً إلى أربعة قوارب مربوطة مع بعضها بالحبال ومربوطة جميعها بقارب تابع للجيش التايلاندي. وبعد إبحار امتد يوماً ونصف اليوم قام الجنود بقطع الحبال وتركوا القوارب في منتصف البحر، وكان القارب الذي يركب فيه «محمد» هو الأكثر حظاً، فبعد إبحار امتد خمسة أيام صادفوا صيادي أسماك تايلانديين قدموا لهم الطعام وقادوهم نحو اليابسة في تايلاند، وكانت الشرطة في انتظارهم، حيث تم اعتقالهم ووُضعت القيود في أيديهم وبدأ التحقيق معهم، ومن ثم تمت إعادتهم إلى جزيرة «ريد ساند أيلاند»، حيث بقوا هناك نحو شهر. يقول محمد: «تم وضعنا في قارب كبير، ولكن هذه المرة قدموا لنا أكياساً من الأرز وكميات من الماء، وبعد الإبحار لمدة يومين ونصف اليوم تركونا في منتصف البحر في قارب من دون محرك.. وبقينا نتنقل في البحر لمدة 14 يوماً، ومرض بعضنا وفقد آخرون وعيهم، ولم نعد نقوى على الحديث من شدة ضعفنا». وفي اليوم السادس عشر، شاهد ركاب القارب - الذي يسير حسب تيار المياه على غير هدى - اليابسة، واكتشفوا هذه المرة أنهم ليسوا أمام تايلاند، وأخذهم الصيادون إلى جزيرة تسمى «أيدي» تابعة لإندونيسيا.. ووصل «منير» بعد إبحار لمدة 14 يوماً إلى جزيرة يُطلق عليها «إندمان»، حيث وجدوا فيها الماء العذب والفواكه، وقدم لهم القرويون الشاي والموز، وأدركوا بعدها أن الجزيرة تابعة للهند. نهاية المطاف وفي نهاية المطاف وصل «محمد» إلى ماليزيا، إلى إقليم «بينانج» حيث التقيتُ به هناك، ولكن قبلها كان صيادو أسماك إندونيسيون قد نقلوه إلى المستشفى مغمى عليه، وبعد ذلك التقى مع شرطي إندونيسي، الذي بدلاً من أن يبدأ بضربه أخذه إلى منزله، وقام بإطعامه ومداواته مع زوجته لمدة أسبوعين، وبعد ذلك نقله إلى مخيم اللاجئين، وكان يُسمح له في كل يوم جمعة بزيارة الشرطي في بيته. وفي إحدى هذه الزيارات قام الشرطي الإندونيسي بتحقيق حلم «محمد»، حيث قدم له المال اللازم للذهاب إلى ماليزيا. وكانت قصة «سليم» مختلفة، فبعد أن أمضى 21 يوماً في معسكر الاعتقال قامت الشرطة التايلاندية بتسليمه إلى مهربين تايلانديين. وطلب منه المهربون المال من أجل نقله إلى ماليزيا، أو إعطائه أرقام هواتف الأشخاص الذين سيذهب إليهم للاتفاق على الثمن، فلما قال لهم: إنه لا يعرف أحداً في ماليزيا أوسعوه ضرباً لمدة 10 أيام. وبعد ذلك باعوه لصيادي الأسماك التايلانديين الذين شغّلوه معهم بلا أجر، وعندما طالب بالأجر، قالوا له: إن الأجر يأخذه من باعوه لهم. وبعد عمله تسعة أشهر تم تحويل أجره لعصابة المهربين الذين قرروا أن هذا المبلغ الذي أخذوه لقاء توصيله إلى ماليزيا، وهذا ما حصل، فقد وفت العصابة بوعدها وقامت بنقله إلى ماليزيا وتركه عند أحد المساجد، وهناك التقى بأحد الماليزيين الذي قدم له بعض المال وتركه يذهب إلى مدينة «جورج تاون» الكبيرة على أمل العثور على عمل. أما «منير» فقد التقيتُ معه في بنجلاديش بعد شهر من عودته من الهند، وعندما سألته عما إذا كان يفكر في الإبحار إلى ماليزيا، قال: «لقد تعرضتُ للموت مرات كثيرة، ولذلك قررت عدم الرجوع إلى ماليزيا، وسأبقى في بنجلاديش، وإن كانت الحياة صعبة هنا، ولكنها تظل حياة أفضل من الموت». والحقيقة أن الحياة في مخيم «كوتو بالونج» للاجئين هي حياة أيضاً، خصوصاً لمن نجا من الأهوال التي تعرض لها «محمد وسليم ومنير» في رحلتهم، إذ يكفي أن يغلق المرء أنفه وعينيه عن البؤس المحيط ويركز أنظاره فقط على ابتسامات عشرة آلاف طفل!
المصدر: مجلة المجتمع - الكويت