الإثنين 13 رجب 1446 هـ | 13/01/2025 م - 09:49 مساءً - بتوقيت مكة المكرمة

تاريخ موجز


تحولات الديكتاتورية في بورما
السبت | 20/10/2012 - 12:05 صباحاً

أندريه ولويس بوكو

* منذ الضربة التي سحق بها الجيش الانتفاضة الشعبية في صيف العام ،۱۹۸۸ بات الجنرال كين نيونت الرئيس النافذ لجهاز المخابرات، وأصبح السكرتير الأول لمجلس الدولة للسلام والديموقراطية الذي أُنشئ في العام ۱۹۹۶ بعد حركة انقلابية داخلية
بعد إقصاء رئيس الوزراء الجنرال كين نيونت بالقوّة، في تشرين الأول/أكتوبر عام ،۲۰۰۴ أصبح الجنرالات الحاكمون هم أسياد بورما أكثر من أيّ وقت مضى. وفي جوّ المنافسات الشخصية والصراعات العشائرية، باتوا لا يتورّعون أبداً عن المماحكات، من أجل تحطيم الأوهام والآمال الواهية التي تراود المعارضة الديموقراطية والعالم الخارجي. أما أعمال المؤتمر الوطني التي بدأت في أواخر شباط/فبراير عام ،۲۰۰۵ ثم استؤنفت بغية وضع دستور جديد، فقد عُلّقت في ۳۱ آذار/مارس حتى زوال الرياح الموسمية في تشرين الثاني، والذريعة الرسمية لذلك هي الفصل الحارّ.

قد نجح الجنرال تان شوي في فرض نفسه في النهاية، بعد أن اعتُبر لمدة طويلة مجرّد عنصر توازن في المنافسة القائمة بين الجنرالين كين نيونت وماونغ آيي. فهو، كرئيس لمجلس الدولة للسلام والديموقراطية، أي الهيئة التي تدير البلاد، يفرض سياسته بفضل الرجال الذين نجح في إحلالهم في كلّ المناصب المهمّة تقريباً. وبنتيجة ذلك، فانّ الجنرال ماونغ آيي، القائد الأعلى للجيش ونائب رئيس مجلس الدولة للسلام والديموقراطية والرجل الثاني في السلطة، يواجه صعوبات كبيرة في مواصلة السيطرة على الجيش.
ومنذ الضربة التي سحق بها الجيش الانتفاضة الشعبية في صيف العام ،۱۹۸۸ بات الجنرال كين نيونت الرئيس النافذ لجهاز المخابرات، وأصبح السكرتير الأول لمجلس الدولة للسلام والديموقراطية الذي أُنشئ في العام ۱۹۹۶ بعد حركة انقلابية داخلية. أما تعيينه رئيساً للوزراء، في آب/أغسطس عام ،۲۰۰۳ فقد اعتُبر، عن خطأ، تعبيراً عن رغبة في الاعتدال لدى المجلس الحاكم الراغب في إحياء الحوار مع المعارضة الديموقراطية.
وفي الواقع، انّ السيد كين نيونت حاول التمايز عن سائر الصقور، ومنهم السيدان تان شوي ومونغ آيي، ببراعته وقدرته على التفاوض مع الآخرين ومن ضمنهم (المجتمع الدولي)، اكثر منه برغبة فعلية في المشاركة في الحكم. وهو كان، بما لا شكّ فيه، مهندس السياسة الموضوعة من أجل السماح للعسكريين بالاحتفاظ بالسلطة، وذلك بالقضاء على المعارضة الديموقراطية المنضوية تحت راية السيدة أونغ سان سوو كيي، الحائزة جائزة نوبل للسلام، وتعطيل كلّ امكانيات تمرّد الأقلّيات الاتنية بمختلف الوسائل.
إلاّ أنّ هذه السياسة لم يتقبّلها كلّياً العضوان الآخران في الترويكا الحاكمة، وخصوصاً الجنرال تان شوي، الذي لم يتحمّل فكرة ترك أيّ مجال للسيدة أونغ سان سوو كيي و(الجمعية الوطنية من أجل الديموقراطية) التي تتزعّمها. فبعد إطلاق سراحها في ربيع العام ،۲۰۰۲ شرعت السيدة سوو كيي في مسار طويل من أجل استعادة شعبيتها وتزايد حجم جمهورها، حتى في المناطق الأكثر تخلفاً التي لم تزرها أبداً. وعلى الأرجح، انّ الجنرال تان شوي قد ثارت ثائرته بسبب الاستقبال الحماسي الذي لقيته في اوساط الشعب، والأقليات الاتنية ضمناً، فأصدر اوامره بإعداد عملية طارئة تلغي الجمعية الوطنية من أجل الديموقراطية، بطريقة عنيفة تساعد في تبرير اعتقال وإعادة زعمائها المتميّزي الشخصية الى السجن.
وفي مناسبة جولة طويلة في شمال البلاد، كانت يقوم بها وفد من الجمعية الوطنية من اجل الديموقراطية، برئاسة السيدة سوو كيي ونائبها السيد (تن أو)، نُصب كمين في مساء ۳۰ أيار/مايو عام ،۲۰۰۳ عند مخرج قرية (تابايان) على طريق ماندالاي. وقد قُتل فيه العشرات من أنصار الجمعية على يد سجناء محكومين أطلق سراحهم في المناسبة، يُشرف عليهم أعضاء في (جمعية الاتحاد والتضامن والتنمية، وهي منظمة جماهيرية تابعة لحزب سياسي أنشأه الجنرال تان شوي (وبحسب المصادر تراوح عدد القتلى ما بين ۱۰۰ و۲۸۰). ويرى عدد كبير من زعماء المعارضة أنّ الهدف من هذه العملية كان تصفية السيدة أونغ سان سوو كيي جسدياً (وهي ربما تدين بنجاتها الى ردة فعل سائقها الذي أخرج السيارة من المعترك).
وقد حملت فداحة الحادث السيد رازالي اسماعيل، ممثل الأمم المتحدة، على المسارعة الى زيارة رانغون في اوائل حزيران/يونيو عام ،۲۰۰۳ حيث اجتمع بزعيمة المعارضة الموقوفة احتياطياً، وزعيمين من المجموعة العسكرية الحاكمة، الجنرال كين نيونت ومونغ آيي، اللّذيْن شجبا الأسلوب الذي اعتمده نظيرهما تان شوي دون أن يديناه في أية حال.
وقد استفاد السيد رازالي اسماعيل من علاقاته المميّزة بالنظام الديكتاتوري، كونه رئيساً ومساهماً رئيسياً (۳۰ بالمائة) في شركة (إيريس تكنولوجيز)، التي تقدّم خدمات إصدار جوازات سفر الكترونية لصالح النظام البورمي، ليصرّح بأنه يتوقّع إطلاق سراح السيدة سوو كيي خلال الأسابيع القادمة. وفي الواقع أنّ المبعوث الخاص للأمم المتحدة قد (ركب الموجة)، وأكّد بكلّ بساطة عجز المنظمة الدولية عن ممارسة أيّ تأثير على رانغون. وهذه هي المرة الثالثة منذ العام ،۱۹۸۹ يُعتقل فيها زعماء الجمعية الوطنية من أجل الديموقراطية، وخلال أيام يتمّ ضرب كلّ أعمال إعادة البناء السياسي التي توسّعت منذ أطلقتها، من مقرّ إقامتها المراقب، السيدة أونغ سان سوو كيي.
وفي النتيجة، أصبحت الجمعية الوطنية من أجل الديموقراطية خارج اللعبة، بعد أن رفضت مهزلة المؤتمر الوطني من أجل تشريع دستور جديد كُتب سلفاً.
ولم يعد أمام النظام العسكري، من الآن وصاعداً، سوى تقديم الاحتجاجات الى المجتمع الدولي والأمم المتحدة. فإذا كان بعض أعضاء مجموعة دول جنوب شرق آسيا يوجّهون الانتقادات الشديدة، خاصّة بعد الموقف الأميركي المؤخّر في شباط/فبراير عام ،۲۰۰۵ حيث وللمرة الأولى قامت وزيرة الخارجية الأميركية، كونداليسا رايس، بتصنيف بورما على لائحة (الأنظمة الديكتاتورية البارزة) جنباً الى جنب مع كوريا الشمالية وكوبا، فإنّ آخرين يدعمون رانغون صراحة كما تفعل تايلاندا.
والحقيقة أنّ رئيس الوزراء التايلاندي، تاكسين شيناواترا، متورّط اقتصادياً في بورما من خلال شركته للاتصالات العاملة عبر القمر الصناعي (شين ساتلايت)، وهي فرع من شركة شين التي تديرها عائلته. فهناك عقد بقيمة ۱۳ مليون دولار، وُقّع في العام ۲۰۰۲ بين (شين ساتلايت) ووزير البريد والاتصالات البورمي (مع مساهمة لشركة (اغان سيبرتيك) نصف الحكومية، التي كان يديرها آنذاك أحد أبناء اجنرال كين نيونت). وهذا على الأرجح ما يفسّر تصريح السيد تاكسين، في مطلع العام ،۲۰۰۵ الذي اعتبر فيه أنّ إبقاء السيدة أونغ سان سوو كيي في الاقامة الجبرية أمر مبرّر.
لكن، وإذ يتمّ إقصاء المعارضة الديموقراطية بشكل مستمرّ، بات على السيد تان شوي أن يحافظ ظاهرياً على صفة تمثيلية شعبية من غير أعضاء جمعية الاتحاد والتضامن والتنمية. ومن أجل هذا، هو يواصل ما كان قد بدأه السيد كين نيونت من إعادة دمج الأقليات الاتنية بالمجتمع. فأصبحت هذه الأقليات موضوع استثمار لديموقراطية مزيّفة، حتى وإن لم يكن لدى السيد تان شوي والسيد مونغ آيي على السواء أيّة نية في تقديم أيّ تنازلات لها.
وعندما تمّ إقصاء الجنرال كين نيونت في تشرين الأول/أكتوبر عام ،۲۰۰۴ انقضّ منافساه على مجمل الجهاز الذي كان يسيطر عليه، من المخابرات الى الشرطة وخدمات الهجرة والجمارك. فجرت عملية تطهير، لا سابق لها في تاريخ النظام الديكتاتوري منذ ان استولى على السلطة ني وين، الديكتاتور الذي حكم ما بين العامين ۱۹۶۲ و.۱۹۸۸
في هذه المرحلة من السعي الى السلطة المطلقة، تمكّن الجنرال تان شوي من الاعتماد على تعاطف القائد الأعلى للجيش مونغ آيي، المنافس الكبير للجنرال كين نيونت. وفي الواقع أنّ الجيش كان يخشى ويحسد جهاز المخابرات العسكرية الذي كان يتدخّل، من جهة أخرى، على كلّ مستويات التراتبية الادارية في الأعمال الاقتصادية الشرعية وغير الشرعية، ليُراكم بذلك ثروات هائلة.
وقبل أن ينجح تان شوي في إسقاط كين نيونت، كان قد أحكم قبضته على العديد من المواقع الحسّاسة. فمنذ أواخر العام ،۲۰۰۳ عيّن أقصى ما يمكن من أتباعه على رأس ۱۲ منطقة عسكرية، كانت هي التي تمارس السلطة الفعلية خارج رانغون. ومن أجل فرض سيطرة أفضل عليها، ولمواجهة نفوذ القائد الأعلى للجيش على الأرض، مونغ آيي، زاد على بنية التراتبية العسكرية (طابقاً) مشكّلاً من أربعة رؤساء لدوائر العمليات الخاصّة. وهؤلاء لا يراقبون النشاطات العسكرية لقادة المناطق وحسب، إنما أيضاً يشرفون على حسن تطبيق السياسة التي يقرّرها مجلس الدولة للسلام والديموقراطية.
وقد فكّكت كلّ هرمية أجهزة المخابرات، إذ تمّ توقيف ما يزيد عن ۳۰۰ من كبار الضبّاط أو أُحيلوا الى التقاعد. وطالت عملية التطهير كلّ الذين انتموا الى أجهزة المخابرات العسكرية أو أقاموا علاقات معها. وفي تلك الفترة، أُجريت تشكيلات سياسية واسعة، أبعدت عن المناصب الوزارية كلّ من يُشتبه بتعاطفه مع الجنرال كين نيونت.
وفي سبيل مراقبة الجيش، وسدّ أيّ ثغرة كفيلة بتهديد سلطته الشخصية، عمد ني وين الى تعزيز جهاز المخابرات. فالجنرالات الحاكمون لم يعودوا راغبين في هذه السلطة المعارضة المستقلة جداً. وبعد أن (أُعيد) قطاع الشرطة الى وزارة الداخلية (إلاّ أن كلّ قادته هم من قدامى ضبّاط الجيش)، انتقل جهاز المخابرات العسكرية الجديد، المسمّى (جهاز الدفاع والأمن العسكري)، الى قيادة أكثر قادة المناطق نفوذاً، في منطقة رانغون، وهو لا يخضع مباشرة إلا للجنرال تورا شوي مان الذي لا يخضع بدوره إلا لتان شوي. وقائد جهاز المخابرات العسكرية الجديد هذا، الجنرال ميينت سوي، ليس سوى حفيد تان شوي.
وهكذا استُبدلت الترويكا التي كانت ترأس مجلس الدولة للسلام والديموقراطية، بمن أسماهم زعماء الأقليات الاتنية (زمرة الأربعة)، التي يبدو فيها القائد الأعلى للجيش مونغ آيي معزولاً تماماً.
ويختلف الزعيمان الرئيسيان حول نقطتين أساسيتين، فمونغ آيي يريد استئناف الحوار مع السيدة أونغ سان سوو كيي، فيما تان شوي يبقى معانداً في هذا المجال. أما بالنسبة الى السياسة المعتمدة مع الصين، فقد كانت على الدوام موضوع خلاف بين مونغ آيي وكين نيونت. واستبعاد هذا الأخير لم يؤدّي الى أيّ تغيير، إذ إنّ تان شوي واصل سياسته بشكل براغماتي.
والسياسة الصينية مرتبطة بشكل وثيق بمجموعة (وا). فهؤلاء المتحدّرين من الحزب الشيوعي البورمي، وقد وقّعوا اتفاقات وقف إطلاق النار، قد استقرّوا على طول الحدود الصينية في شمال شرق البلاد. وبعض كوادرهم هم من الصينيين الذين أوفدتهم بيجينغ أيام الدعم الصيني المفتوح للحزب الشيوعي البورمي. وإذ ظلّوا في بورما، فانهم باتوا يشكّلون صلة وصل أساسية للنفوذ الصيني مع هذه الأقليات الاتنية. وفي هؤلاء، تجد بيجينغ مجموعات ضغط مفيدة، ذاك أنّ الصين تستخدم المنحدرات البورمية كوسيلة لحماية جانبها الجنوبي الغربي في مواجهة الهند، وكطريق مميّزة للوصول الى المحيط الهندي بالالتفاف على مضيق ملقّة.
يضاف الى ذلك أنّ تطوير الحوض الأعلى لنهر ميكونغ يشكّل رهاناً مهماً جداً، بالنسبة الى الصين التي تجد التعاون مع بورما أمراً ضرورياً. فمشروع تحسين الملاحة في نهر ميكونغ، بعد إزالة الشعب الصخرية ومجاري المياه السريعة، يجب ان يجعل الملاحة في النهر ممكنة في مجراه الأعلى، ممّا يسمح للسفن - بحمولة ۵۰۰ طن - باستخدامه طوال السنة تقريباً ما بين جنوب يونان ولوانغ برابانغ في لاوس. ولم تشكّل النتائج البيئية عائقاً كبيراً إزاء المكاسب الاقتصادية الصينية. أما في ما خصّ السكان المحلّيين على ضفاف النهر فلم يُستشاروا في الموضوع.
ومقابل هذا التعاطف معها، تدعم الصين النظام البورمي عسكرياً واقتصادياً. لكنّ هذا لا يحرمها من وسيلتيْ ضغط. فمن جهة هناك الحركة القومية (وا) التي تسيطر على منطقة ذات استقلال ذاتي (المنطقة الخاصة الثانية)، على طول الحدود الصينية، والتي تضمّ قواها المسلحة حوالي ۲۰۰۰۰ جنديّ. ومن جهة أخرى هناك القروض الصينية بمعدّلات فائدة منخفضة جداً، ممّا يساهم في حمل الاقتصاد البورمي. ففي آذار/مارس عام ،۲۰۰۴ زار رانغون نائب رئيس الوزراء الصيني (وو يي)، لتوقيع ۲۴ اتفاقاً للتعاون التقني والاقتصادي، إثر منح بورما قرض بقيمة ۲۰۰ مليون دولار.
لكنّ الجنرال مونغ آيي، القوميّ المتطرّف، يتقبّل بصعوبة هذا النفوذ الصيني، وكذلك الاستقلال الذاتي الممنوح للأقليات الاتنية التي لا تتوقّف عن التقدّم بمطالبها القومية. فهو يرغب امّا في سحقها عسكرياً وامّا في استسلامها دون شروط. وبعد إقصاء كين نيونت، هو يرغب في العودة الى اعتماد القوة مع المجموعات التي ترفض الانصياع، وخصوصاً جماعات الواس التابعة لحركة (وا) القومية.
ويرى الجنرال تان شوي أنّ سياسة كين نيونت، وإن هو لم يوافق عليها كلياً، قد أعطت نتائج إيجابية، وفي هذا المجال هو تعهّد بمواصلتها. ومن جهة أخرى، قد فرض على مونغ آيي أن يتابع السياسة القائمة مع بيجينغ، لأنّ التمويلات الصينية ضرورية لبورما. أما بالنسبة الى الصين، فانها لا ترضى بقيام حكومة معادية لها في رانغون. ولذلك بامكان النظام البورمي الاعتماد عليها من أجل الاستمرار.

المصدر: صحيفة الوفاق الإيرانية
السنة الثامنة - العدد ۲۲۶۷ - الخميس۷جمادى الثانى۱۴۲۶ -۲۰۰۵‎/۰۷‎/۱۴


التعليـــقات
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الوكالة وإنما تعبر عن رأي أصحابها

ذكرى 3 يونيو

المقالات
مؤلفات
القائمة البريدية
اشترك الآن في القائمة البريدية لتصلك نشرة دورية بأحدث وأهم الأخبار
البحث