الأربعاء 8 شوال 1445 هـ | 17/04/2024 م - 12:19 صباحاً - بتوقيت مكة المكرمة

تاريخ موجز


مسلمو بورما وأهل فلسطين: دروس في إتقان التجاهل
الإثنين | 15/10/2012 - 12:03 مساءً

د. عبدالوهاب الأفندي

(1)عملنا في الثمانينات ـ وربما يقال ان الحال لم يتغير اليوم- في مطبوعات تخصصت في تبني 'القضايا الخاسرة'، ولعل التعبير الأدق هو: قضايا المظلومين والمستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، من فلسطين وجنوب افريقيا، إلى مسلمي آسيا الوسطى ويوغسلافيا، وضحايا الأنظمة العربية من المحيط إلى الخليج.
(2)
تتشابه تلك القضايا في مصائب أهلها، وإن كانت هناك درجات من الظلم والقهر. فنظام جنوب افريقيا، رغم تمييزه العنصري الفاضح، كان يسمح بالحريات الشخصية من دينية وغيرها. وفي فلسطين، يضاف إلى ذلك التشريد والحرمان من الوطن والمواطنة. أما في آسيا الوسطى والصين ويوغسلافيا فكانت المعاناة تشمل الحرمان من حرية التعبد أو التعليم الديني. وقد وصل الأمر في بلغاريا لدرجة إصدار السلطات الشيوعية في منتصف الثمانينات قراراً يفرض على المسلمين هناك ـ ومعظمهم من أصل تركي- تغيير اسمائهم إلى أسماء 'بلغارية' وإلا حرموا من كل الحقوق، مما اضطر أكثر من ثلاثمئة ألف منهم إلى الهجرة إلى تركيا، تاركين وراءهم كل ما يملكون.
(3)
تفاوتت كذلك ردود الفعل الخارجية تجاه هذه القضايا، حيث أيد الغرب الرسمي عموماً المقاومة للاحتلال السوفييتي لأفغانستان، واتخذ موقفاً ملتبساً لنظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا، بينما انحاز لإسرائيل ضد ضحاياها. وبينما قامت حركات شعبية في أوروبا مناهضة للنظام العنصري، لم تقم حركة مماثلة لصالح فلسطين. وحتى عند العرب، كانت الوقفات الشعبية مع الحق الفلسطيني ضعيفة وموسمية ولا ترقى إلى مستوى الحدث. أما قضايا مسلمي الاتحاد السوفييتي فكانت بالكاد تذكر، فضلاً عن أن تثير تحركات.
(4)
بين كل القضايا التي تناولناها، كانت قضية مسلمي بورما، المعروفين بالروهنغية، أو بأهل أراكان، نسبة إلى الإقليم، متفردة في فداحة المصاب من جهة، (حيث شمل الحرمان من كل الحقوق ومحاولات الطرد)، وبين الإهمال التام من قبل المسلمين وغيرهم من جهة أخرى. كذلك لم تتحرك جهة أممية أو حقوقية للدفاع عنهم.
(5)
كان زميلنا أسلم عبدالله الذي انتقل الآن للإقامة في الولايات المتحدة- يتولى منفرداً عبء الحملة للتعريف بقضية الروهنغية، ولم نكن قد سمعنا بها من قبل. وكان أسلم ـ ولا يزال متعه الله بالعافية- شعلة متقدة من النشاط، متعدد المواهب والمقدرات. وكان يتتبع قضية الروهنغية بهمة ونشاط، ويوالي نشر قائمة الانتهاكات الطويلة والمتكررة في حقهم، بعد أن سنت الحكومة قانوناً يحرمهم من الجنسية، رغم أنهم باعترافها يقيمون في البلاد على الأقل منذ عام 1830 (والمعروف أن هذه الدول حدد حدودها الاستعمار، وكذلك حدد من يسكنها).
(6)
بنفس القدر كانت هذه أقل القضايا التي أثارت اهتمام الرأي العام، سواءً الإسلامي أو العالمي. وحتى بين العاملين في مجلة 'أرابيا' نفسها لم يكن الاهتمام بالقضية كبيراً، لولا إصرار أسلم وتمسكه العنيد بإثارتها كلما سنحت الفرصة. أما بالنسبة للبقية، فكنا عندما نفرغ من قضايا أفغانستان وفلسطين، وحرب العراق وإيران ومشاكل باكستان ولبنان وبقية مصائب العرب، ونعرج على قضايا المعسكر الشيوعي وأوروبا وأمريكا، لا تكون بقيت في الأجسام طاقة ولا في المجلة مساحة لقضايا أخرى.
(7)
في الأسابيع الأخيرة، وبصورة مفاجئة، أخذت قضية الروهنغية فجأة صدارة الأنباء، وليس فقط في العالم الإسلامي، ثم تحركت، وبدون مقدمات، منظمة المؤتمر الإسلامي، والآسيان، والصليب الأحمر، والأمم المتحدة، وإعلام الشرق والغرب، وكل المنظمات، للتصدي للأزمة. صحيح أن هذا لم يخفف بعد من معاناة أهل إقليم أراكان، بل إن الانتهاكات في حقهم تزايدت، ولكن التحرك مثل انقلاباً في أوضاع فئة ظل الأقارب قبل الأباعد يتجاهلون مأساتها لعقود.
(8)
هنا نجد أسئلة مهمة تطرح نفسها عن العوامل التي تتحكم في ردود الأفعال تجاه القضايا الإنسانية. فمن الواضح أن الظروف المتعلقة بالروهنغية أنفسهم لم تتغير. فما الذي تغير بحيث تحولت قضية منسية فجأة إلى مسألة تملأ الدنيا وتشغل الناس؟ نفس السؤال يطرح نفسه حول القضية الفلسطينية، حيث تشهد الآن زيادة في المعاناة وانخفاضاً في مستوى الاهتمام، حتى عند العرب. فلماذا تتفاوت مستويات الاهتمام، حتى تجاه القضية الواحدة؟ وما هي العوامل التي تتحكم في هذه الأمور؟
(9)
من الصعب اكتناه كل الألغاز هنا، ولكن عوامل عدة تلعب الدور الأهم، وأولها القيادة الحكيمة والواعية التي تنجح في وضع القضية في مسارها الصحيح، حتى عندما تكون في السجون، أو مغيبة، كما حدث لنيلسون مانديلا أو في بورما نفسها لأونغ سان سوشي. هنا تحولت القيادات نفسها إلى رموز. وبالمقابل نجد القيادة الفلسطينية منقسمة بين فئة صامتة على جرائم الاحتلال وأخرى تصرف النظر عنها بمواقف وأفعال تضر بالقضية. أما الروهنغية فإننا لا نعلم كثيراً عن قياداتهم، وربما يكون فداحة ما تعرضوا له لم يسمح بنشأة قيادات فاعلة.
(10)
ولعل الجمود أبرز ما يضعف الاهتمام بقضية ما، حتى في وجود عامل العنف الذي عادة ما يلفت النظر إلى أي قضية، لأن الإعلام بطبعه يتتبع العنف. ولكن هذا يعتمد على موقع العنف وعلاقته بالدول ذات الإعلام القوي. فالعنف في افريقيا أو الهند مثلاً لا يلفت الاهتمام، كما في أوروبا أو أمريكا، إلا إذا مس أشخاصاً لهم علاقة بتلك 'العواصم'. على سبيل المثال نجد الإعلام البريطاني انشغل خلال اليومين الماضيين بمقتل شرطيتين في مانشستر، ولم يكد يرد في نشراتها ذكر أكثر من مئة شخص ماتوا في نفس اليوم في سورية. فحتى العنف يصبح مملاً عند تكراره، وفي أمريكا حيث جرائم القتل بالعشرات كل يوم لا يشار إليها إلا إشارات عابرة في النشرات المحلية.
(12)
ربما يكون الانفتاح السياسي والإعلامي النسبي في بورما مؤخراً ساهم في إتاحة المعلومات حولها. بنفس القدر فإن الانفتاح قد يكون ساهم أيضاً في زيادة العنف من قبل المتعصبين ضد المسلمين، أسوة بيوغسلافيا. ولكن تبقى القيادة الحكيمة هي الضمانة لكي تلقى أي قضية الاهتمام التي تستحق.


المصدر: موقع سودانيل


التعليـــقات
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الوكالة وإنما تعبر عن رأي أصحابها

ذكرى 3 يونيو

المقالات
مؤلفات
القائمة البريدية
اشترك الآن في القائمة البريدية لتصلك نشرة دورية بأحدث وأهم الأخبار
البحث