حكايات الروهنجيا في الشتات.. أرواح متعلقة بتراب الوطن المسلوب
05/03/2017

وكالة أنباء الروهنجيا - العالم بالعربية: 

محمد سرحان

لا يزال ينزف منذ عقود جرح مسلمي الروهنجيا في إقليم أراكان غربي ميانمار؛ إذ يتعرضون لإبادة جماعية وتُحرَق قراهم ومساجدهم ومنازلهم المتواضعة، ويُقتَل أطفالهم ويُغتَصَب نساؤهم، ويُساقون عُنوَة إلى مخيماتٍ غير آدمية يُحبسون فيها بين أحضان الجوع والحرمان.

تاريخ دموي

منذ أن نالت ميانمار “بورما سابقا” استقلالها في أربعينيات القرن العشرين، تتواصل المذابح والتهجير القسري بحق المسلمين من عرقية الروهنجيا، فضلا عن الهجرة العكسية الرامية إلى تغيير الهوية الديموجرافية بجلب البوذيين وتوطينهم في أحياء المسلمين.

في عام 1982 أقرت سلطات ميانمار ما يعرف بقانون الجنسية الذي ينزع عن مسلمي الروهنجيا وطنيتهم ويعتبرهم دخلاء، رغم أن أراكان كانت مملكة إسلامية احتلها البورمان سنة 1784م، وكان المسلمون حينئذ يشكلون 100% من نسبة سكانها.

تحت الاحتلال البورمي، تعرضت أراكان لموجات من الاضطهاد والتغيير الديموغرافي، حتى أصبحت نسبة المسلمين عند استقلال بورما عن بريطانيا عام 1948م، حوالي 80%، ومع المجازر والتهجير القسري أصبحت نسبة المسلمين أقل من 15% عام 2012، ومنذ ذلك الوقت تصاعدت بشكل موجات العنف غير مسبوق وتزايدت معدلات هجرة المسلمين، حتى أنه منذ أكتوبر 2016 فقط فر أكثر من 60 ألف مسلم من الروهنجيا إلى بنجلاديش.

سعداء الحظ؟

في ظل هذا الواقع البائس يقول البعض إن سعيد الحظ هو من فرّ بحياته إلى مخيمات اللجوء والشتات،  لكن إلى أي مدى فعلا يطابق الواقع هذا القول، وما هي طبيعة الحياة التي يعيشها من فرَّوا بأرواحهم من أراكان إلى مخيمات اللجوء وبلاد المهجر؟ وكيف هي مشاعرهم الإنسانية وحنينهم إلى  الوطن؟ ترى هل أصبح هؤلاء فعلا من سعداء الحظ أم زادتهم حياة اللجوء والشتات تعاسةً؟ كيف هو واقع هؤلاء المنسيين الغائبين عن أعين الكاميرات؟

حاولنا أن نسلط الضوء على هؤلاء الذين يعيشون بأجسادهم في الشتات، لكن أرواحهم لا تزال متعلقة بتراب أراكان.. فأي حظ هذا الذي يمكنه أن يرد إليهم بعضا من ذكريات الطفولة وأنفاس الأهل وحكايا الوطن؟

طفولة تحت المقصلة

” لا زلت أتذكر طفولتي، لا زلت أتذكر كيف كانت أمي تربي الدجاج ولا يزال يتردد في أذني صياح الديكة في بيتنا الذي أخذه الجيش رغما عنا وطردنا”، هكذا بدأ معنا “عمر فاروق” كلامه وهو تغالبه الدموع، يحكي لنا قصة سنواته الأولى في ميانمار، وكيف كانت طفولته.

يتابع “عمر”، الذي يعيش حاليا في السعودية وينشط في مجال الإعلام للتعريف بقضية مسلمي الروهنجيا: “ولدتُ في بلدة “كيوكتاو” وكانت الأشجار وحقول الذرة تحيط بنا من كل مكان، وكذلك النهر، إلا أنه وبرغم هذه البيئة الساحرة، لم يكن بوسعنا كأطفال مسلمين الاستمتاع بهذه الطبيعة أو حتى مجرد اللعب بحرية؛ خوفا من بطش البوذيين والجيش”.

يضيف وهو يطلق العنان لذاكرته محاولا أن يكتم تنهيدة تخفي بداخلها حزنا عميقا: “تخيّل أن يكون مجرد الوصول إلى المدرسة فرصة نادرة! بعد رحلة معاناة من الرعب والضرب على يد البوذيين، حيث كنا نمر في طريقنا للمدرسة بقرى الراخين، في المدرسة لا بد وألا يكون اسمكَ يظهر هويتك الإسلامية.

نشأتُ وترعرعت على مشاهد القتل والتعذيب. كان هؤلاء البوذيون وقوات الجيش يقتحمون بيوتنا دون أية أسباب؛ يضربوننا ويعذبوننا، يختطفون المسلمين، كان كل شيء ممنوعا حتى تلاوة القرآن الذي كنا نقرأه سرا، حتى استولوا على منزلنا وطردونا منه”.

تسليم الراية.. من الأجداد إلى الأحفاد

استمعنا إلى قصة “عطا أبو سامر” الذي يعيش في السعودية أيضا: ” كان عمري يزيد قليلا عن 3 سنوات عندما هربنا إلى بنجلاديش. في تلك الليلة غادرنا المنزل سيرا على الأقدام نحو الحدود البنغالية، وأتذكر جيدا كيف كانت أمي تحملني على ظهرها وتكرر تحذيرها لي بعدم البكاء خشية أن يشعر بنا حرس الحدود. أتذكر كيف كانت تلك المغامرة: أن تستقل أسرة أو عشرات الأسر قاربا صغيرا، ثم تقطع مسافات طويلة مشيا على الأقدام بين الغابات. كثير من مسلمي الروهنجيا ماتوا خلال رحلات الهجرة والفرار إما ضحية رصاصة غدر أطلقها حرس الحدود أو نتيجة التعب والإرهاق من المشي في الغابات”.

يكمل “عطا”: “ولدت في بورما، وعندما اشتد الظلم فرَّت عائلتي وأنا طفل صغير إلى بنجلاديش لنحو ثلاث سنوات، ثم انتقلنا للعيش في السعودية. لسنوات طويلة كانت أمي تحكي لي عن عقود الظلم التي تعرض لها مسلمو الروهنجيا في أراكان، وأننا كننا نعيش في قريتنا محاصرين من جميع الجهات. كان التنقل من قرية إلى أخرى لزيارة الأقرباء صعبًا جدا، فبالكاد يحصل المرء على تصريح تنقل من المخفر، وبعد إشعار عمدة الحي، وطبعا كان بطش البوذيين مستمر، وليس هناك أي جدوى في رفع دعوى إلى الشرطة ضد أحد البوذيين؛ فالمسلم الروهنجي هو المجرم والمذنب دائما في نظرهم” .

وأضاف: “أسرتي كانت تحرص على أن تغرس في داخلي إيماني بقضية مسلمي الروهنجيا، فكان أبي يصطحبني معه في كثير من الجلسات المتعلقة بالقضية، ويعلمني أن أظل أحمل في داخلي هم الوطن وأن أربي أولادي على أن لهم وطنا اسمه أراكان سيستردونه يوما ما. وهذا ما أغرسه في أولادي فعلا حب وطنهم والعمل لأجل قضية أهله” فهذا واجب من هم خارج أراكان”.

حكاية المساء: أحلام الوطن

من ماليزيا استمعنا إلى قصة “قطب شاه”، وهو باحث دكتوراه في مقارنة الأديان حُرِم من الالتحاق بكلية الهندسة في ميانمار لكونه ليس بوذيا، ما اضطره إلى السفر للدراسة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ثم إلى ماليزيا.

قصة “قطب شاه” بدأت قبل ذلك بكثير، إذ عاش وآلاف أمثاله من مسلمي الروهنجيا معاناة واسعة وحرمانا من طفولتهم أو حقهم في التعليم أو دراسة ما يرغبون، وإذا كان يعيش في ماليزيا في مأمن من الاضطهاد، إلا أنه يقول إن روحه تقتل ألف مرة في اليوم وتنزف مع كل كل قطرة دم روهنجي تراق، ومع كل أنين صرخة لمسلم روهنجي أو مسلمة تغتصب، كل ليلة يروي على مسامع طفلته التي لاتزال في مهدها، محنة وطنها وأنهم سيعودون يوما إلى هذا الوطن المسلوب.

من المواقف التي رآها “قطب شاه” في بورما، يقول: “في يوم وأنا في المرحلة الثانوية، وبينما كنت اصلي الفجر في المسجد، حاصرت قوات الجيش المسجد واعتقلت كل من كان يصلي وقتها، واقتادتني حينها للعمل الإجباري وأعطوني صواريخ مستعملة وأجبروني أن أنقلها إلى مكان بعيد مشيا على الأقدام، إذ كان يتم إجبار مسلمي الروهنجيا على أعمال مشابهة، وكثير منهم لم يعودوا إلى بيوتهم.

الطب في خدمة الروهنجيا

في ألمانيا أيضا يعيش بعض من أبناء أراكان ومن هؤلاء الطبيبة “أمبيا برفين” وهي استشاري طب الأطفال، كما أنها مشاركة في مشروع طبي لصالح الروهنجيا، وعضو المجلس الروهنجي الأوروبي، والتي قالت لنا: “غادرت أسرتي “أراكان” هربا من الموت، وقتها كانت أمي في مرحلة حملها بي عندما انتقلت الأسرة إلى بنجلاديش ثم إلى باكستان حيث استقرت لفترة وولدت في كراتشي.

إنها نعمة أن يكون لديك أسرة متعلمة وتعرف كيف تغرس في أبنائها حب الوطن، وهذا ما فعله أبي وأمي معي وأخواتي وكلنا الحمد لله طبيبات. لم ننس أراكان يوما بل نذهب إلى كل مكان في العالم ونشارك في الفعاليات من أجل أراكان”.

وتضيف: المغتربون عن أوطانهم يتألمون من مجرد الغربة، فما بالك بالمهجرين قسرا وليس في إمكانهم العودة. حتى أن أجيالا ولدت بعيدا عن تراب أراكان، فرغم أنني أزور بلادا كثيرة، لكن يبقى للوطن مكانة خاصة، ففيه ترتدي ثيابك التقليدية وتتحدث لغتك المحلية، نعرف التاريخ من هناك من أرض الوطن”

تردف الطبيبة: إن الإنسان المنصف هو من يرفض الظلم عامة ضد الجميع وهذا ما نطالب به العالم أن يتحرك لإنقاذ مسلمي الروهنجيا الذي يعانون القتل والإبادة منذ عقود لمجرد أنهم يعتنقون دين آخر عن البوذية.

شوق إلى الجذور

في ألمانيا أيضا كانت قصة “د. أنيتا علي” وهي طببية والمتحدثة باسم المجلس الروهنجي الأوروبي، تقول: وهي تحاول إخفاء دموعها ” أنا أنتمي للأقلية الأكثر اضطهادا في العالم إذ نتعرض للتطهير العرقي فبعدما كنا نحو خمسة ملايين إنسان أصبحن أقل من مليون بفعل التهجير القسري والقتل”.

وأضافت: “الجيش والبوذيون يحاولون محو كل تاريخنا كمسلمي الروهنجيا يدمرون مساجدنا يغلقونها يقتلون الإنسان، كل يوم تواصل ميانمار السقوط إلى الهاوية”.

تحكي “أنيتا”: “ولدت في رانغون التي تسمى حاليا يانغون، لعائلة روهنجية غنية، درس أبي الهندسة الميكانيكية وخلال الدراسة لم يكن هو وزملاؤه يتمكنون من زيارة أقاربهم في أراكان خشية عدم السماح لهم بالعودة للدراسة.

وتضيف: “حتى في يانغون لم تسلم أسرتي من المضايقات، حتى اضطرت إلى الفرار وكان وقتها عمري أربع سنوات، وأتذكر جيدا كيف كانت أمي تكافح للحفاظ علي فوق الماء خشية الغرق ونحن نستقل قاربا متهالك، وكيف مكثنا لنحو ثلاثة أيام في الغابات بقليل من الطعام، على حدود بنجلاديش ثم توجهنا إلى باكستان، وكيف أخفينا هويتنا.

بعدما التحقت بالمدرسة في باكستان كيف كان يتم نعتي بالبنغالية وكل مرة كان يناديني أحدهم بالبنغالية كنت أشعر بطعنة في قلبي، لكن أبي كان يذكرنا دائما أننا روهنجيون ويجب أن نعمل على مساعدة أهلنا وأن نكون صوت من لا صوت له.

وكما فعلت أسرتي أنا أفعل مع ابني البالغ من العمر سبع سنوات والذي بات يدرك مأساوية وضع الروهنجيا ويدرك أنه عندما يكبر ستكون لديه رسالة عليه القيام بها”.

وتختتم “أنيتا” بالقول: لا يمكن أن ننسى رائحة الوطن، ونسيمه البارد وأنهاره وأشجاره. فأنا افتقد كل شيء في وطني العمات وأبناء العمومة، فالناس في أوروبا لا يحتاجون إليّ، لكن شعبي هو من يحتاج إليّ وأنا اشتقت إلى جذوري، لكني أخشى أن يبقى ذلك مجرد حلم”.
 


المصدر: وكالة أنباء الروهنجيا
https://www.rna-press.com/